الخميس، ديسمبر ١٤، ٢٠٠٦

نيتشه والتحليل النفسي

نيتشه والتحليل النفسي
د. عبد الغفار مكاوى
هذه قراءة لبعض نصوص نيتشه (1844/1900) "النفسية". ربما تثير الكلمة الأخيرة شيئا غير قليل من الشك والحيره . وربما ذكرت القارئ بالجدل الطويل الذى دار وما زال يدور حول الفيلسوف الشاعر مؤلف "هكذا تكلم زرادشت" و "أناشيد ديونيزيوس الديثرامبية" ، صاحب الاسلوب المتوهج بالصور الحية . والرؤى العميقة المخيفة ، والعبارات البركانية المتفجرة بالغضب والشوق ، ذلك الذي "تفلسف بالمطرقة" ولم يكتب كلمة واحدة لم يغمسها – على حد قوله– في دم القلب ، هل هو شاعر أم فيلسوف ؟ وهل نحسم هذا الجدل الذي لم ينته بأن نضيف إليه مشكلة جديدة فنزعم أنه عالم نفس؟لا شك عندي في أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه ، وبهجته ألمه ، بل أن التفكير المجرد ليبلغ عند تلك القمة التي يصبح فيها فكرا غنيا بالصور الحية التي تليق "بفيلسوف الحياة"

ويكفى أن نطلع على فقرة واحدة مما كتب ، وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابة الأكبر (إرادة القوة) الذي لم يقدر له أن يتمه وجمع ونشر بعد موته : "أن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة" ، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة : "أن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء ، أما عندي فهو الأيام المواتية عيد ونشوة " واخيرا هذه العبارة التي دونها في اوراقه التي عثر عليها بعد موته وكأنه كأن يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه : "إرادة القوة" ، كتاب هدفه التفكير ، ولا شئ غير التفكيرإرادة القوة إذا شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس أنه قول ميتافيزيقى يتحدث عن العالم ككل ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء

ويصدق الشيء نفسه عن أقواله الكبرى – التي تعرضت دائما لسؤ الفهم – عن الأنسأن الأعلى وإرادة القوة – أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة – وعودة الشبيه الأبدية . فهي أفكار فلسفية وميتا فيزيقية قبل كل شئ ، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأى معظم الدارسين (وبخاصة هيدجر وتلاميذه) اشد الميتافيزقين تطرفا في تاريخ التفكير الغربي ، بل أنه في رأيهم منتهى غايتها أخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.بيد أن كل هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال أنه "خبير بالنفس" لم يتوقف عن سبر أغوارها ، وأنه كما قال في كتابه "أنسأني ، أنسأني جدا"قد استفاد من "مزايا الملاحظة النفسية" وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها وينطق بلسان "السيكولوجي" حين ينطق عن حاله

يقول على سبيل المثال في كتابة "نيتشه ضد فاجنر" : "كلما ازدادت خبرة المرء بالنفس واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة إلى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقة عليها …" ولكن ما حاجتنا للجوء إلى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس وتعمقه في طبقاتها الدفينة ومتاهاتها المظلمة ؟ أن المطلع على هذه الكتابات ابتداء من "ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى" حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه ووجهها إلى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه – كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة ونظراته النفسية الثاقبة ، بل أنها لتشهد بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار ، وأنه راد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي – كما سنرى بعد قليل – واثر عليها جميعا بحدوثه وخواطره الملهمة تأثيرا مباشرا أو غير مباشر - وصل في بعض الأحيان إلي حد استباق النظريات – كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية – بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلا مع كلمة الإعلاء التي تتكرر في كتبة اكثر من أثنى عشرة مرة..الواقع أن نيتشه قد تجاوز علماء النفس "المدرسيين" في عصره وتخلص من لغتهم التصورية الجافة وسبقهم إلي كثير من المعارف والأنظار التي لم يدروا عنها شيئا

نظر في خفايا النفس الفردية وما تنكره خجلا أو تحجبه خوفا من نفسها ومجتمعها ، كما نظر في العلاقات الوثيقة بين الحضارة والدين ، وبين المجتمع والأخلاق ، وتتبع التطورات الحضارية التي كونت ما نسميه الوعي إلى الأجداد وأجداد الأجداد واثبت أن هذا الوعي ليس ألا حصيلة الأخطاء عريقة ، وأن الضرورة تقتضي الغوص إلى ما تحته في متاهة الدوافع المستمرة ، كما تقتضي التطلع إلى ما بعده في "وعى جمعي" يحمله جيل من أصحاب الأرواح الحرة المريدة الخلافة ، جيل راح ينتظره ويعد له ويبشر به بأعلى صوته . وهو لم يكتف في كل هذا بأن يكون خبيرا بالنفس يقتفى أثار منابعها الذاتية الحقة ، ولم تقف تجاربه ومحاولاته عند البحث عن هذه المنابع الأصيلة (يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرا دشت : الانتظار والتأهب . انتظار أن تنبثق منابع جديدة . أن ينتظر المرء عطشه ويتركه حتى يصل إلي أقصى مداه لكي يكتشف منبعه) لم يقف الأمر عند هذا بل عرف أن "السيكولوجية " التي يقصدها "سوماتية" أن ممتدة الجذور في الجسد . ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل عنوان إحدى حكمة التي كتبها ضمن شذرات كتابة الأكبر الذى سبقت الإشارة إليه : "الاهتداء بالجسد" وأن يقول فيها : "على فرض أن (النفس) كانت فكرة جذابة غنية بالأسرار الغامضة ولم يستطع الفلاسفة – والحق معهم – أن ينفصلوا عنها ألا مرغمين ، فربما كأن ذلك الذي بدأ يتعلمون كيف يستبدلونه بها اكثر جاذبية واحفل بالغوامض والأسرار "ولا شك أن نيتشه – بعد شوبنهور وفويرباخ – قد اكتشف أن الجسد فكرة اكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس "العتيقة"

وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام أن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل – الذي أنهار وخلع عن عرشه بعد موت هيجل – إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع . ولعل نيتشه أن يكون أشدهم من هذه الناحية تأثيرا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود إلي علم النفس الوجودي إلي الأنثربولوجيا الفلسفية إلي مدارس التحليل النفس المختلفة

هل يعنى هذا أن نجعل من نيتشه "عالم النفس" كما أصر على وصف نفسه في بعض نصوصه ؟ وهل يصح أن نشق على أنفسنا فنوازن موازنة دقيقة بين نصوصه التي تتجلى فيها "أنجازات السيكولوجية" وبين نصوص أخرى نستقيها من علماء النفس التحليلين (كما فعل فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس (1872-1956) في كتابة أنجازات نيتشه السيكولوجية(*) مبينا سبقه لهؤلاء في العديد من مناهجهم ونظراتهم ومطلحاتهم) إن البحث العلمي لا يعرف حدا يقف عنده ، ولا يتهيب بابا يطرقة ولا طريقا يقتحمه . وكل ما سبقت الإشارة إليه أمور مشروعة لا غبار عليها

ولكن المشكلة أن جوانب نيتشه متعددة - مثل في ذلك مثل كل مفكر حقيقي ضخم – فهو "سيكولوجي" أراد – على حد قوله – أن يجعل من علم النفس "طريقا إلي المشكلات الأساسية الكبرى"بحيث يصبح "سيد العلم" ويسخر سائر العلوم لخدمته والإعداد له . وهو بجانب ذلك "فسيولوجى" اراد أن يعرف "الفيزيس" فى الطبيعة وفى حياة الإنسان وجسده الخاص ، و "فيلولوجى" ضاق بمناهج فقهاء اللغات القديمة فى عصره – وقد كأن استاذا لها – وبضيق أفقهم وقصور تفسيراتهم اللغوية المرهقة . ثم هو قبل كل شئ وبعد كل شئ مفكر ميتافيزيقى وفيلسوف حضارة عدمية غاربة وأخرى مقبلة في مستقبل يبشر به ويعلن عنه ويدعو إلى خلقه وإبداعه .وتبقى في النهاية مشكلة نصوصه نفسها . أن هذا النصوص المجنحة المتوهجة بنار الغضب أو النشوة تحير كل من يحاول الاقتراب منها

فهل يمكن أن نقف منها. موقفا موضوعيا باردا يقتضيه التحليل العلمي ، وهل نستطيع من ناحية أخرى أن نقى أنفسنا خطر الأنجذاب لدوامتها والأنجراف مع حماسها وجموحها ؟ أن نيتشه يصف نفسه بأنه ليس بشرا وأنما هو ديناميت ! وهو يؤكد باستمرار أنه قدر وأن قدرا لم تسمع عنه البشرية قد ارتبط به .. ومن يطلع على صفحة واحدة من كتاباته لا ينجو من زلزلة تصيبه أو حمم تتناثر من بركانه . ولن ينسى أحد وصفه لنفسه في هذه الآبيات التي جعل عنوانها "هو ذا الإنسان" من كتابه الذي يحمل نفس العنوان:حقا!أنى اعرف أصلى!نهم لا اشبع أتوهج ، آكل نفسي كاللهب المحرق،نورا يصبح ما امسكه فحما ما اتركه حقا!أني لهب محرق!لا مفر أذن من أن نحاول الأمرين معا على صعوبة الجمع بينهما: أن نفهم هذا المفكر اللاهب الملتهب ، وأن نتعاطف معه ونجرب أن نرى رؤاه ، وبذلك نرضى مطلب الموضوعية الذي لا غنى عنه ، ونستجيب لدفئ الوجدان الساحر الذي ينفح وجوهنا مع كل سطر من سطور .الأمر عسير كما قلت ، وهو أشبه بإقامة العدل أو عقد الزواج بين الثلج والنار!أنه يتطلب اتخاذ مسافة البعد الكافية التي تحتمها النظرة العلمية المحايدة ، كما يقتضي القرب المتعاطف الذي يحتمه التعامل مع مثل هذا الفيلسوف الشاعر بالمعنى الاعمق لا بالمعنى التقليدى لهاتين الكلمتين. ولعل هذا البعد السحيق من جهة وهذا التواصل الوثيق من جهة اخرى هما اللذان تفرضهما كل علاقة أصيلة يمكن أن تنشأ بين الأنا والأنت (على حد تاكيد مارتن بوبر فى كتبه العديدة عن هذه العلاقة الجوهرية الاصيلة التى اوشكت أن تغيب غيابا مطلقا عن حياتنا العربية والمصرية!).بقى أن نتم المهمة التى اشرنا إليها فى بداية هذا التقديم ، ألا وهى بيان التأثيرات المباشرة أو الغير مباشرة لكتابات نيتشه " النفسية" على أعلام التحليل النفسي او بالأحرى "علم نفس الأعماق" كما يوصف في لغته . وهى مهمة سنحاول أداءها بإيجاز شديد لا يسمح المقام بتفصيله.لنبدأ برائد التحليل النفسى ومؤسسه فرويد (1856-1939)

ولنذكر اولا أنه كأن معاصرا لنيتشه الذى يكبره فى السن بإثنى عشر عاما فحسب ، وأنه اتخذ منه ومن فلسفته موقف التحفظ الذى لم يكد يتزحزح عنه . ولعل القارئ لم ينس تلك الفقرة المشهورة من نهاية المحاضرة الثامنة عشرة من محاضراته التمهيدية عن التحليل النفسى التى يشرح فيها كيف أوذي الإنسان الحديث ثلاث مرات فى غروره واعتزازه بنفسه ومكانته فى العالم . كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر فى عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبرنيقوس (1473-1543) الذي افترض أن أرضنا ليست هى مركز الكون ، وكأن من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة وأن العالم لم يخلق من اجله . وكانت المرة الثانية عندما قدم تشارلز داورين (1809-1882) كتابه عن اصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي فاثرت نظريته في التصور الديني بوجه خاص عن كون الأنسأن صورة الله وخليفته علي الأرض

أما المرة الثالثة فكأن الأذى اشد قسوة واعمق جرحا ، إذ جاء من جانب " البحث السيكولوجي الراهن الذي يريد أن يثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدة في بيتها الخاص ، أنما تظل معتمدة علي أنباء شحيحة عما يجري بصورة غير واعية في حياتها النفسية ". ومع أن فرويد يقرر في تواضع أن أصحاب التحليل النفسي ليسوا هم أول من نبه إلي ضرورة الرجوع إلي الذات ولا هم وحدهم اللذين فعلوا ذلك ، الا أنه يستطرد فيقول : " يبدو أنه كتب علينا أن نعبر عن هذا اقوي تعبير وأن ندعمه بالمادة التجريبية التي تهم كل فرد ،. ولسنا هنا بصدد مناقشة الطابع التجريبي والعلمي للتحليل النفسي ، فالجدل حول هذه المسألة يطول

ولكننا نسأل فحسب أن كأن من حق فرويد وتلاميذه وحدهم أن يستأثروا " بمجد" إيذاء الإنسان الحديث وتعرية عالمه الباطني المظلم ، ام أن نيتشه قد سبقهم إلى الأخذ من هذا المجد بنصب !مهما يكن الأمر فأننا نجد فرويد يشيد في سيرته ( أو صورته الذاتية) – التي نشرت سنة 1925 – بالفيلسوف شوبنهور ويتحدث عن توجه التطابق القوي بين التحليل النفسي وفلسفته وهو يشهد بأن هذا الأخير لم يصرح فحسب بأولوية " الانفعالية " والأهمية القصوى " للجنسية " ، وأنما توصل كذلك إلى نظرات نافذة في " إليه الكبت " ( راجع سيرة فرويد الذاتية ، فرانكفورت غلي نهر الماين ، سلسلة كتب فيشر ، ص 87)(*) ويستدرك فرويد –الذي كأن فيما يبدو شديد الحرص علي عدم المساس بأصالته واكتشافه للاوعي – فيقول أنه لا يمكن الحديث عن أي تاثير لشوبنهور عليه وعلي بناء نظريته لأنه لم يطلع علي كتابات الفيلسوف الا في وقت متأخر جدا ولم يكن ينتظر من رجل مثل فرويد الذي عرف بثقافته واطلاعه الأدبي الواسع – أن يتجاهل معاصره نيتشه ، فنجده يسجل في الموضع السابق من سيرته هذه الملاحظة الدالة :" اما نيتشه ، الذي كثيرا ما تتطابق مشاعره ونظراته بصورة مذهلة مع النتائج المضنية لتحليل النفسي ، فقد تجنبته طويلا ولم يكن يرجع إلى السبق ( أو الأولوية ) بقدر ما كأن يرجع إلى حرصي علي المحافظة علي حريتي " ولا يخفي علي القارئ أن هذه العبارة تنطوي علي ما عكس ما أراد عالم النفس الشهير اذ يبدو أنه- في هذه النقطة علي الأقل – لم يعرف نفسه كما كأن يتوقع منه ، ولم يستطيع اخفاء اهتمامه ينفي أي تأثير عليه من نيتشه ، فكأني به قد وقع زلة من زلات اللسان او القلم التي تثبت ما حاول أن ينكره ويخفيه !ولا يتسع المجال لتناول علاقة فرويد بنتشه بصورة مفصلة

ويكفي أن نشير – تاكيدا لهذه العلاقة التي حاول مؤسس التحليل النفسي أن ينفيها أو يقلل من شأنها – إلى أن مؤرخ حياة فرويد – وهو العالم الإنجليزي أرنست جونز ـ يذكر في كتابه عن حياة أستاذه خطابا مؤرخا في سنة 1900 يقرر فيه أنه "مشغول بقراءة نيتشه" ، ولابد أنه لم يفته أن يطلع عليه من قبل وأن لم يبدأ العكوف عليه إلا في السنة المذكورة . ونضيف واقعة أخرى لا تخلو من دلالة على العلاقة غير المباشرة بينهما. فقد حضرت صديقة نيتشه لو سالومي (وهي التي حاول عبثا أن يخطب ودها !) مؤتمر التحليل النفسي الثالث الذي أنعقد في شهر سبتمبر سنة 1911 في مدينة فيمار

والمعروف أنها أنضمت بعد ذلك إلى مدرسة فرويد الذي اعتبرها من تلاميذه ، كما حاولت في مذكرتها التي كتبتها بعنوان "من مدرسة فرويد" أن نربط نظريات التحليل النفسي وتعبيرات نيتشه وصيغه النفسية المختلفة ، وأخيرا نشير باختصار إلى الرسائل المتبادلة بين فرويد والكاتب الروائي الاشتراكي أرنولد تسفانج (**)(1887- ) في فترة امتدت من سنة 1927 حتى سنة 1939 . فقد أخبره تسفايج أنه يزمع وضع كتاب أو رواية طويلة عن نيتشه ، ثم أرسل إليه في الثاني من ديسمبر سنة 1930 من مدينة فينا خطابا يقول فيه أنه ـ أي فرويد ـ قد حقق كعالم نفس تلك الرسالة التي شعر نيتشه بوجد أنه الملهم أنه مكلف بأدائها ، وأن كان قد عجز عن تحويل رؤاه الشعرية إلى حقائق علمية . وأخذ الكاتب الروائي يعدد "إنجازات" فرويد التي سبقه الفيلسوف إلى الإحساس بها وصياغتها : "لقد حاول نيتشه أن يصور "ميلاد التراجيديا " ، وأنت قد فعلت هذا في كتابك عن "الطوطم والمحرم " ( التابو ) وعبر عن شوقه إلي عالم يقع وراء الخير والشر ، وقد استطاعت عن طريق التحليل النفسي أن تكتشف مملكة تنطبق عليها عبارته ، وأن تقلب قيمة كل القيم ، وتتجاوز المسيحية ، وتصوغ " خصم المسيح " الحقيقي ، وتحرر مارد الحياة المتصاعدة من الزهد الذي كانت تعتبره المثل الأعلى ، ولقد استطاعت كذلك أن ترد " إرادة القوة " إلي الأساس الذي تقومم عليه ، وأن تتناول بعض المشكلات الجزئية التي اهتم بها نيتشه عن الأصل اللغوي للمفاهيم الأخلاقية فتتطرق منها إلي مشكلات اعظم واهم من الكلام والافصاح والربط بين الأفكار وتبليغها ونتوصل إلي حلها

أما الروح المنطقية او السقراطية التي رفضها فقد قصرتها علي مجالات الوعي ووضعتها في حدودها بصورة ادق . " ولما كنت باحثا طبيعيا وعالما نفسيا يتقدم خطوة خطوة فقد أتممت ما تمني نيتشه أن يتمه ، الا وهو الوصف العلمي للنفس البشرية وجعلها مفهومة، ثم زدت علي ذلك فبينت – بحكم كونك طبيبا – سبل تنظيمها وعلاج امراضها . أنني اعتقد كذلك أن هناك قدرا كبيرا من الملاحظات الفردية – التي تتصل بفرو يد " الكاتب " وتمد جسورا بينه وبين نيتشه ، كما أعتقد أن بسالة " المتفلسف بالمطرقة " قد فاقتها بسالة الباحث بأسلوب موضوعي خالص عن الدوافع الأورفية والديونزية . واكتشاف تأثيرها وفعلها في كل واحد منا …."ماذا كان رد فعل مؤسس التحليل النفسي علي كل هذا التمجيد والاشادة بدوره ؟العجيب حقا أنها لم تحوله عن تحفظه تجاه الفيلسوف ، بل لعلها قد زادته إصرارا عليه ! فهو ينصح الكاتب الروائي بالعدول عن فكره تأليف الكتاب ، بل يضيف في خطاباته التإلية أننا لا نعرف الا اقل القليل عن تكوين نيتشه الجنسي ، وهذا القليل لا يساعدنا علي تطبيق ادوات التحليل النفسي لالقاء الضوء علي حياته وقدره

ويبدو أن الكاتب لم يقتنع بالحجج التي تذرع بها فرويد ، فارسل إليه هذا الاخير – في خطاب مؤرخ في السابع من ديسمبر من السنة نفسها 1930 – هذه العبارة الدالة :" اكتب عن العلاقة بين تأثير نيتشه وتأثيري بعد أن أموت " ( ارجع الرسائل المتبادلة بين فرويد وأرنولد تسفانج ، نشرتها ارنست فرويد ، فرانكفوت علي الماين ، 1969 ، ص 25 وما بعدها ).لعل هذا الموقف المتحفظ أن يرجع - كما تقدم - إلى خشية فرويد أن يستقر في الأذهان سبق نيتشه وأن يضر ذلك بريادته وأصالته، والرد على هذا بسيط: فليس نيتشه هو الوحيد الذي أثر على تفكير فرويد، سواء اعترف به أم أنكره (فثمة تأثيرات مؤكدة من أسماء أخرى مثل ليبنتز وجوته وشوبنهور وكاروس - الفيلسوف الطبيعي الرومانتيكى المعروف بكتابه عن النفس وبحديثه عن اللاوعي) كما أن عشرات المؤثرات لا تصنع عبقرية، والاطلاع على عشرات الحكم والأفكار الملهمة لا يغنى عن ضرورة تشكيلها ولا ينال من أصالة اكتشاف المنهج وسبل الفحص والعلاج. هل نقول إذا مع باحث مثل هنرى ف. إلينبرجر (في كتابه اكتشاف اللاشعور، الجزء الأول عن نيتشه نبي عهد جديد، ص 73 - 385 من الترجمة الألمانية، 1973)(*) أن تأثير نيتشه يتغلغل في مدرسة التحليل النفسي بأكملها؟ أن الحكم الموضوعي النزيه يقتضي المقارنة بين النصوص مقارنة دقيقة

وهو جهد مشروع كما قلت، وسنخرج منه في النهاية بما لا يمس رائد التحليل النفسي في أصالته، ولا يحول فيلسوف إرادة الحياة والقوة إلى عالم نفس! وفي تقديرى أن هذه المقارنة الدقيقة – التي نفتقدها حتى الآن – ستنتهي إلى النتيجة التى أشرت إليها، ولكنها ستؤكد فضلا عن ذلك أوجه تشابه عديدة بين فكر المفكر وعلم العالم بغض النظر عما أثير حول علمه من ظنون وعما بذل من محاولات لتدعيم أفكاره بالتجارب و"التقنيات" أو الأساليب العلمية والطبية الدقيقة. سوف نلاحظ مثلا أن الفيلسوف وعالم النفس يشتركان في الاعتقاد بأن كل تفكير الإنسان وفعله وكل أشكال التعبير عن الحياة البشرية عند الفرد والجماعة أنما هى مظاهر أو ظواهر معبرة عن "عمق" باطن، وأن "اللاوعي" هو الذى يقوم في ذلك بالدور الأول والأكبر لا "الوعى"، إذ تكون السيطرة لقوى الدافع التى تأتى من مناطق لا واعية في النفس، وهى قوى أو طاقات تعد أقدم من الوظيفة العقلية، كما تكتشف عن الجانب الأكبر من شخصية الإنسان الذى يحاول بطبيعته أن يتستر خلف أقنعة من كل نوع - ويتم هذا الكشف حتى في أحلامه (حسب نظرية فرويد عن الأحلام)

ولهذا يؤكد نيتشه في مواضع كثيرة من نصوصه أننا نستطيع أن نستخلص من التعبيرات الانفعالية لأي إنسان ما يفوق في حقيقته ودلالته كل ما يمكن ان نستخلصه من العقل الذى يعمد دائما إلى الوزن والقياس والحساب والتخطيط.ولقد اعترف فرويد - كما سبق القول - بأن كتابات نيتشه تنطوى على نظرات حدسية نجدها في كثير من الأحيان متطابقة مع النتائج التجريبية للتحليل النفسي ، والواقع أن هذه الكتابات تتناثر فيها مفاهيم وأفكار لا شك في أهميتها وقيمتها التحليلية والنفسية، ناهيك عن مصطلحات يمكن أن توصف بأنها بذور نمت منها بعض المصطلحات التى استقرت في التحليل النفسى (مثل مصطلح "الهو" الذى يقابلنا أكثر من مرة في الكتاب الأول من هكذا تكلم زرادشت وتبقى النظرات الحدسية - كما وصفها فرويد بحق - هى الأجدر بالاهتمام، إذ لا نستبعد أن تكون قد أثرت على رائد التحليل النفسي مهما أنكر ذلك التأثير أو تنكر له

ولنذكر بعض هذه النظريات باختصار
التصور الدينامى للنفس مع تصورات أخرى مرتبطة به كالطاقة النفسية، ومقادير الطاقة الكامنة أو المعوقة، وتحويل الطاقة من دافع إلى آخر، تصور أن النفس نظام أو نسق من الدوافع التى يمكن أن تتصادم وتتصارع أو تندمج وتذوب في بعضها، تقدير أهمية الدافع الجنسي وأن لم يجعله الدافع الأول والأهم كما فعل فرويد قبل أن يتكلم عن غريزة الموت في كتاباته المتأخرة، إذ أنه يأتى عنده بعد دوافع العدوان والعدم، فهم العمليات التى سماها فرويد "إليات دفاعية" وبخاصة عملية الإعلاء والتعويض، والتعجيل أو التعويق - والذى يسميه فرويد الكبت - واتجاه الدوافع وجهة مضادة للذات نفسها. كذلك نجد بعض الأفكار المهمة متضمنة في نصوص الفيلسوف مثل صورة الأب والأم، وأوصافه للإحساس بالحقد والضمير الكاذب والأخلاق الفاسدة التى سبقت أوصاف فرويد للإحساسات العصابية بالذنب كما سبقت وصفه للأنا الأعلى، أضف إلى هذا كله أن كتاب فرويد المشهور "الضيق بالحضارة" يكاد أن يوازى كتاب نيتشه عن "تسلسل الأخلاق" موازاة دقيقة في نقد العصر والحضارة، ولعل كليهما قد تأثر بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسى ديدرو (1713 - 1784) من أن الإنسان الحديث مصاب بمرض عجيب مرتبط بالمدنية، لأن المدنية تتطلب منه أن يتخلى عن إشباع دوافعه

وغنى عن الذكر أن الاثنين قد عاشا متعاصرين، وأنهما قد مرضا بزمانهما وحضارتهما وحاولا أن يعرياهما من أقنعتهما الزائفة. والفرق الأساسى بينهما أن عالم النفس قد اهتم بالتطور الذى يبدا من الماضي بينما تطلع الفيلسوف بكل غضبه وحماسه إلى المستقبل.ويأتى دور الفرد آدلر (1870 - 1937) مؤسس علم النفس الفردي الذي يدور حول قضية أو فكرة تبدو شديدة القرب من تفكير نيتشه. فالمعروف أن آدلر قد اعتبر الشعور بالنقص أو الضآلة من أهم حقائق الحياة النفسية، كما استخلص منه نتائج مهمة تتعلق بتحديد شخصية الفرد وبطابع الحياة الاجتماعية، وهو يذهب إلى حد القول بأن الإنسان هو الكائن الذى يسعى سعيا دائبا لإكمال شخصيته، وذلك بفضل إحساسه بنقصه وضآلة قيمته، فإذا عاق هذا السعى إلى الكمال عائق وحيل بينه وبين الطموح إلى القوة وإثبات الذات ظهرت عليه أعراض المرض العصابى.ولا شك أن العبارات السابقة تغرينا بالتقريب بين فلسفة نيشته وبين مذهب آدلر الذى يحركه الطموح إلى القوة أو "إرادة القوة". وقد نسرع إلى الظن بأن هذا المذهب يردد تنويعات مختلفة على لحن أساسى من إلحان نيتشه، وربما يؤيدنا في هذا الظن أن آدلر نفسه - في كتابه عن الشخصية العصبية (1921) - يوافق على أن "إرادة القوة" تصلح للتعبير عن مسعاه وأن هذه الفكرة الموجهة - كما يقول في التمهيد للجزء النظرى في ا لكتاب المشار إليه - "يندرج تحتها اللبيدو والدافع الجنسى والميل للأنحراف أيا كأن مصدرها جميعا، أن إرادة القوة و"إرادة المظهر" عند نيتشه تنطوى على جوانب كثيرة من رأينا الذى يقترب بدوره في بعض النقاط من آراء فيريس وغيره من المؤلفين القدامى

ولا يكتفى آدلر بهذه العبارات التى تشهد باطلاعه الواسع على فلسفة نيتشه واعترافه بتأثيرها عليه، بل يضيف قوله في كتاب آخر نشره بالاشتراك مع زميله كارل فورتميلر تحت عنوان "العلاج والتربية"، وإذا ذكرت اسم نيتشه فقد كشفت عن أحد الأعمدة الشامخة التى يقوم عليها فننا، أن كل فنان يطلعنا على خبايا نفسه، وكل فيلسوف يعرفنا بطريقته في توجيه حياته وجهة عقلية، وكل معلم ومرب يشعرنا بانعكاس العلم على وجدانه، كل هؤلاء يهدون بصرنا وإرادتنا في أرض النفس الواسعة" - (راجع كتاب يوسف راتنر عن الفرد آدلر 1972، ص 82، سلسلة كتب روفلت المصورة عن شخصيات الأدباء والفنانين والمفكرين، العدد 189)(*)ربما أوحى إلينا هذا كله بأن مذهب آدلر صورة نفسية من فلسفة نيتشه

غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الظن، بل ربما جاز القول بأن علم النفس الفردي يسير في اتجاه مضاد لأفكار فيلسوف القوة. ولا يرجع هذا إلى أن آدلر قد تأثر به كما تأثر بغيره، فالتأثيرات مهما اشتدت وتنوعت لا تصنع، كما قدمنا - شخصية ولا فكرا متميزا، وأنما يرجع إلى الفروق الموضوعية الدقيقة بينهما، فإرادة القوة التي تصورها نيتشه تختلف عن الطموح إلى القوة الذى يفسح له آدلر مكانا مهما في نظريته عن العصاب، وبينما يعبر الأول بفكرته عن إنسانية أعلى ويجعل منها وسيلة تخطى الإنسانية الحاضرة وغايتها، نجد آدلر يعتبر الفكرة نفسها وموقف نيتشه بأكمله تعبيرا عن اليأس والقلق ونزعة التعويض التي تدفع بصاحبها إلى السيطرة على الآخرين وإثبات القوة والغلبة عليهم (ولا ننسى بهذه المناسبة أن فيلسوف القوة كان فاسد المعدة مضطرب الأعصاب مصابا بالأرق المزمن وشقيا يتجاهل العصر وجحوده بحيث يمكننا أن نقول مع بعض الباحثين أن علم النفس الفردى هو أبلغ اتهام لإرادة القوة وأقسى تعرية لخداع صاحبها لنفسه وتدميره لها، وكما وضع فرويد التصميم الواعى والتدبر والحكم العقلى الواضح في مقابل الدوافع اللاوعية، كذلك أقام آدلر من الشعور بالجماعة سدا يحمى الحياة النفسية عن عواصف الطموح إلى القوة والسيطرة الإنسانية، صحيح أن آدلر قد سلم بوجود ثنائية نفسية تذكرنا بما قاله فرويد عن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، أو دوافع الحب والحياة ودوافع التدمير والموت، ولكن الواقع أن علم النفس الفردي يحاول تحقيق التوازن بين النزوع الفردي إلى القوة وبين الشعور بالجماعة أو المجتمع. فإذا كانت إرادة القوة تمثل الدافع الأصلى وتعبر عن غريزة الحياة الأساسية والمحور الذى يدور حوله الوجود، فأن الشعور بالجماعة هو الأصل والأساس في حياة الإنسان، وما النزوع إلى القوة إلا حركة نفسية نابعة من عقدة الشعور بالنقص (أو ضآلة القيمة) مفسدة للإنسان مدمرة لكيانه

وليس الإنسان في نظر علم النفس الفردى مجرد حالة فردية أو استثنائية تطمح إلى القوة والسيطرة ولا تعرف شيئا عن الحب كما زعم فرويد عن تلميذه المنشق ! وأنما يقاس الفرد دائما بمقياس الإنسان المثالي الذى يتبع قواعد اللعبة التى يسنها المجتمع ويسير- على هدى التربية وعلم النفس - إلى تحقيق الحياة الإنسانية المشتركة مع إخوته في الجماعة الإنسانية.ونصل أخيرا إلى العلم الثالث من أعلام "علم نفس الأعماق" وهو كارل جوستاف يونج (1875 - 1961) لنعرف إلى أى حد تأثر "بالخبير بالنفوس". والحق أن يونج يسلم بهذا التأثير بجوأنبه الإيجابية والسلبية. ونستشهد على هذا برسالة كتبها قبل موته بشهور قليلة إلى أحد رجال الدين الأمريكيين وقال فيها: "أن تقديم تقرير مفصل عن تاثير أفكار نيتشه على تطورى العقلى لمهمة طموح تتخطى حدود قدرتى. فقد أمضيت شبابى في المدينة التى كأن نيتشه قد عاش فيها فترة من حياته وعمل في تدريس اللغات القديمة في جامعتها، وبذلك شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، على الرغم من أن هجماته كانت تلقى مقاومة شديدة. لم أستطع أن أتجنب الأثر الذى أحدثه إلهامه الأصلي على نفسى وشدنى إليه بقوة. فقد كأن يتميز بالإخلاص والصدق الذى لا يمكن أن يدعيه عدد غير قليل من الأساتذة الأكاديميين الذين يهتمون بمظاهر الحياة الجامعية أكثر مما يهتمون بالحقيقة. والأمر الذى أثر في أعظم تأثير هو لقاؤه بزرادشت ونقده "للدين"، هذا النقد الذى أفسح في الفلسفة مكانا للعاطفة المتوقدة من حيث هى دافع أصيل على التفلسف

شعرت أن "التأملات لغير أو أنها" قد فتحت عيني، أما "تسلسل الأخلاق" و "العود الأبدى" فكأن حظهما من اهتمامي أقل، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرنى تبصرة عميقة بما يمكن أن يحققه علم النفس.وعلى الجملة، كأن نيتشه بالنسبة إلى هو الإنسان الوحيد الذي قدم لى في ذلك العصر إجابات كافية، عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التى كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها (رسائل يونج، الجزء الثالث) ص 370 وما بعدها).هذا الاعتراف الصريح من مؤسس علم النفس التحليلى لا يحتاج إلى تعليق. ويمكن أن نضيف إليه اعترافا آخر يسجله بكل العرفان عن سنوات الطلب والتحصيل في شبابه، فقد أقبل على قراءة نيتشه في نهم وحماس، ثم قرأ "هكذا تكلم زرادشت" فكانت قراءته لهذا الكتاب بجانب فاوست لجوته - أقوى تجربة مر بها في شبابه (راجع ليونج: ذكريات وأحلام وأفكار، نشرتها أنبيلا جافيه، زيورخ وشتوتجارت، 1963، ص 109 وما بعدها)(. (*)ولعل أول أثر لهذه القراءة قد ظهر في رسالته الجامعية عن "سيكولوجية الظواهر المسماة بالظواهر الخفية وتشخيص أمراضها" (1902) فقد درس فيها حالة من حالات "الكريبتومنيزيا" التذكر الخفي واللاشعوري) والتى صادفها عند نيتشه.ولم تمض سنوات قليلة حتى رجع إلى نفس الموضوع

وحاول أن يتحسس طريقه إلى "شيطان اللاوعي" الذى وقع الفيلسوف تحت تأثيره السحرى. عند تدوينه لكتابه عن زرادشت: "أن هذه الاهتزازات الراجفة العميقة للمشاعر، وهى التى تتخطى مجال الوعى وتتجاوزه، هى القوى التى أظهرت للنور أقصى التداعيات تطرفا وخفاء، هنا اقتصر الوعى على القيام بدور العبد الخادم لشيطان اللاوعى الذى طغى على الوعى وراح يغمره بالخواطر الغربية، وما من أحد استطاع أن يصف حالة الوعى بمركب لا واع مثل نيتشه نفسه (الكلريبتومنيزيا، في المجلد الأول من مؤلفات يونج الكاملة ص 113 وما بعدها) - ويحاول الطبيب النفسى الشاب أن يتابع هذا الموضوع الشائك عن "الأرواح" والأرباب عند الإغريق وبخاصة عن شخصية ديونيزيوس مع الإشارة الصريحة إلى تأثيرها على نيتشه ابتداء من كتابه "ميلاد التراجيديا" فيقول في رسالة وجهها سنة 1909 إلى فرويد : "يبدو أن نيتشه قد أحس بهذا إحساسا قويا، ويخيل إلى أن الديونيزى" كأن يمثل موجة ارتداد جنسية لم تقدر قيمتها التاريخية حق قدرها، وقد تدفقت بعض عناصرها الجوهرية إلى المسيحية، وأن طبقت تطبيقا آخر يتسم بالاعتدال والتصالح (رسائل يونج، الجزء الأول، ص 35).ولا يقف الأمر عند هذه النصوص وأشبابهها لبيان تاثير نيتشه على يونج، فالواقع أن خيوط هذا التأثير بشخصية نيتشه و"نمط" حياته وتفكيره بل وأحلامه ورؤاه تتخلل كتاباته من بداية حياته إلى نهايتها. ولا شك أنه كأن صادقا كل الصدق عندما قال في كتابه المشهور عن" سيكولوجية اللاوعي" 1912 (وطبع طبعات منقحة بعد ذلك) أنه قد بدأ حياته طبيبا نفسيا وعقليا، ولكن نيتشه هو الذى أعده إعدادا لعلم النفس الحديث (سيكولوجية اللاوعي، المجلد السابع من المؤلفات الكاملة، ص )128 (*). ولولا ضيق المقام لتعرضنا للتجارب "الدينية" التي مر بها الفيلسوف وعالم النفس في صباهما وشبابهما، إذ أنحدر كلاهما من صلب قسيس، ووجد نفسه محاطا بعلماء اللاهوت الذين عجزوا عن الإجابة عن الأسئلة التي أرقتهما

ولكن الأهم من ذلك ألا ننساق وراء التأثير والتأثر - الذى يظل في تقديرى أمرا غامضا على كل المستويات!- وأن علم أن مؤسس علم النفس التحليلى لم يكن مجرد معجب متحمس لفيلسوف الإرادة والحياة وأنما أتيح له أن يتطور وينضج ويجد ذاته وينظر إليه بعين ناقدة. ونكتفى في هذا الصدد بمثلين نقدمهما من مؤلفاته، فهو في كتابه عن "الأنماط النفسية" (1921) - وهو أول مؤلف كبير بعد كتابه عن تحولات اللبيدو ورموزه الذى شهد أنفصاله عن فرويد (1912/1913) - لا يكتفى بسرد نصوص يقتبسها من نيتشه، وأنما يتناول شخصيته كمثل على نوع من الوعى الذى يحاول بكل جهده ا لسيطرة على الدوافع المظلمة. أنه يذكر بالتقابل الأساسى الذى يعبر عن التضاد الحاسم بين طرفين هما ديونيزيوس وأبوللو - كما عرضه نيتشه في كتابه المبكر عن ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى - ثم يتطرق إلى نقد دينامية الدوافع الكامنة وراء هذا التضاد

ويسوق أمثلة اخرى من التاريخ الحضارى والأدبي نذكر منها رسائل الشاعر الفيلسوف شيلر (1759 - 1805) عن التربية الجمالية ليعزز بها نقده.لقد أهمل المفكران الشاعران في رأيه البعد الدينى واقتصرا على الاهتمام بالبعد الجمالى والفنى لشخصيتى أبوللو وديونيزيوس، وهو لا يكفى لتفسير مضمون التجربة الدينية والتاريخية التى تغلغلت في "اللاوعى الجمعى" لقدماء الإغريق فضلا عن أن نيتشه قد تجاهل الجانب الصوفى والتأملى الذى اتسمت به طقوس ديونيزيوس في أماكن مختلفة من بلاد الإغريق: "لقد اقترب نيتشه من الواقع إلى الحد الذى جعل تجربته الديونيزية المتأخرة أشبه بنتيجة ضرورية لا مفر منها، أما هجومه على سقراط في ميلاد التراجيديا فهو هجوم على العقلاني العاجز عن الإحساس بالنشوة والتوهج الديونيزى (الأنماط السيكولوجية)، المجلد السادس من المؤلفات الكاملة، ص 151)(*) وقد كأن من الطبيعى أن يحاول يونج فحص الخصائص النفسية لهذين النمطين الأسطوريين وأن يحاول أن يبين العلاقة بينهما وبين نظريته عن الوظائف النفسية والمواقف أو الأنماط الأساسية التى تؤدى في مذهبه دورا كبيرا (والمعروف أنه يحدد أربعة أنماط من الوظائف هى التفكير والشعور والإحساس والحدس، كما يحدد نمطين أو موقفين أساسيين هما الانطواء والانبساط)

وهكذا يجد أن ما يصفه نيتشه "بالديونيزى" يقترب في تصوره من الشعور المنبسط المتجه إلى الموضوعات الخارجية، إذ تظهر في هذه الحالة تأثيرات أو أنفعالات دافعية قاهرة وعمياء تعبر عن نفسها في صور جسدية عنيفة، أما ما سماه نيتشه "بالأبوللونى" فهو - كما أوضح بنفسه - تعبير عن إدراك الصور الباطنة للجمال والحب والمشاعر المعتدلة المنظمة. وتبرز طبيعة الحالة الأبوللونية إذا قارنا بينها وبين الحلم. فهى حالة استبطأن وتأمل متجه إلى الباطن مستغرق في عالم الحلم الغنى بالأفكار والمثل الأبدية، أى أنه في النهاية تعبير عن حالة الأنطواء (المرجع نفسه، ص 152) ثم يتطرق عالم النفس إلى تحليل شخصية نيتشه نفسه فيقول أنها تجمع بين الوظيفة النفسية للحدس من ناحية وبين وظيفة الإحساس والدافع من ناحية أخرى، أنه يمثل النمط الحدسى أو الوجدأنى الذى يميل للانطواء، يشهد ذلك طريقته الحدسية والفنية في الأنتاج كما يدل عليه أسلوبه في الكتابة بوجه عام وفي ميلاد التراجيديا

وزرادشت بوجه خاص. ومع ذلك فأن هذه النزعة الانطوائية تخالطها - كما نرى من كتبه العديدة التى وضعها في صورة حكم منثورة - نزعة عقلية ونقدية حادة متأثرة باعتراف صاحبها نفسه بإعجابه بحكم الكتاب الأخلاقيين الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وتبقى الغلبة في نهاية المطاف للنمط الحدسي المنطوى الذى يفتقر عموما إلى التحدد والتنسيق العقلي والمنهجي. ويميل إلى إدراك "الخارج" عن منظور "الباطن" ولو على حساب الواقع. ويظل الفيلسوف طوال حياته واقعا تحت تأثير السمات الديونيزية للاوعى الباطن، إذ لم تبلغ هذه السمات سطح الوعى إلا بعد أن تفجر مرضه الأخير واستسلم لغيبوبته العقلية الطويلة التى انتهت بموته، ولم تظهر قبل ذلك إلا في مواضع قليلة متفرقة من كتاباته في صورة رموز وإشارات شبقية.أما المثل الثاني الذي يدل على مدى اهتمام يونج بشخصية نيتشه فيمكن أن نسوقه من النصوص المختلفة التي تعرض فيها العالم السويسري "للقدر" الألماني والمحنة التى جرها الألمان على ملايين البشر في حربين عالميتين، فنحن نجد في كتابه السابق الذكر عن الأنماط النفسية إشارات يفهم منها أن "زرا دشت" نيتشه قد ألقى الضوء على مضمونات من اللاوعى الجمعى مرتبطة بظهور "الإنسان القبيح" وبالمأساة اللاشعورية الفاجعة التى يعبر عنها هذا "النبى - الضد" أو المتنبئ المعذب (وقد كأن العصر يفيض في ذلك الحين بجرائم الفوضويين والعدميين ومقتل الأمراء والنبلاء والحكام وتطرف إليساريين .. الخ) أما عن اللمحات والرموز التى فاضت عن اللاوعى الأوربى للتعبير عن الخطر القادم على يدى الوحش الفاشى فنلاحظ أن يونج يتحدث عن "البربرى الجرماني" في دراسة صغيرة له عن "اللاوعى" ترجع إلى سنة 1918

والغريب في حديثه أنه يعهد إلى المسيحية بمهمة ترويض الجانب "الواضح والأعلى" من وعى هذه الجماعة الخطرة، ويترك مهمة التحكم في جانبها "السفلى" للعناية الإلهية! والأغرب من هذا أنه لا يذكر الخطر الجرماني وحده، وأنما يؤكد أن "الجنس الآرى الأوربى" يتعرض لنفس الخطر النابع من عمق اللاوعى الجمعى، ثم يشير إلى نيتشه إشارة غير خافية حين يقول أن "الوحش الأشقر يمكنه في سجنه السفلى أن يستدير إلينا فيهددنا أنفجاره بأفظع النتائج عن هذه الظاهرة تتم كثورة نفسية في داخل الفرد، كما يمكن أن تظهر في صورة ظاهرة اجتماعية، (عن اللاوعى، المجلد العاشر من المؤلفات الكاملة، ص 25)(*).لقد صدق تاريخ العالم حدس يونج واستيقظ الوحش الأشقر وفجر حمم الكارثة، فهل نقول إليوم أنه ظلم نيتشه فصوره (كما فعل توماس مان بعد ذلك في روايته الرائعة عن الدكتور فاوستوس التى تحمل ملامح من نيتشه ومن المؤلف الموسيقى الغريب الأطوار أرنولدج شينبرج ..) في صورة النمط المعبر عن الوحش الأشقر، أم أنه أنصفه حين أكد أنه عبر عن ذلك "البربرى" الكامن في طبقات اللاوعى السفلى من كل جرمأنى وفي أعماق نيتشه نفسه وتجربته؟ مهما يكن الأمر فأن يونج قد اهتم من الناحية العلمية البحتة بإبراز قوى الدوافع "النمطية الأولية" التى وصفها نيتشه نفسه وأعلن عن عواصفها وصواعقها المقبلة وحذر من أخطارها

وكأنهما كأن هذا الشاعر الفيلسوف "الخبير بالنفوس" هو ساحر العصر الذى يستحضر أرواح الشياطين المدمرة، ويتنبأ بالكارثة المحتومة، ويعرى الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة لتسقط وسط الحطام الهائل المتراكم على صدر أوربا العجوز: "ويل لهذه المدينة العظيمة - وأنا الذى تمنيت أن أشاهد أعمدة النار التى تحترق فيها! لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم. ومع ذلك فلهذا أوأنه وقدره الخاص!!"أن هذا النص الذى نجده في زرادشت كما نجد أشباهه في كتب نيتشه الأخرى يدل دلالة واضحة على أنه كأن فيلسوف الكارثة

ومع ذلك فأن أمثال هذه النصوص المزدحمة بصور الخراب ورموزه لا يصح أن تغرينا بتفسيرها تفسيرا تاريخيا ضيقا، ولا يجوز أن تنسينا لحظة واحدة أنها تعبر تعبيرا رمزيا عن "الزلزلة القادمة" التى ستتبعها إشراقة "الفجر الجديد" (ولا ننسى أيضا أن الرموز الأصيلة ذات أبعاد عميقة متعددة).ونسأل أخيرا: ما هى هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين أو بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الفنية المليئة بالإيحاءات والإشعاعات. ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى - على ضوء ما سبق وما سيأتي بعد أن نيتشه يمثل "صدعا في تاريخ البشرية" (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس الذى تقدمت الإشارة إليه

ولقد أكد تأكيدا لا مزيد عليه أنه "آخر العدميين"، وأن رسالته هى الكشف عن تصدع عصره "البرجوازى" وأنهياره على رؤوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التى فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقى الذى كأن يستند عليه، ولكن من الذى سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذى سيحول القيم من اللوجوس (المنطق والجدل العقلى) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ وأخيرا من الذى سيبدع هذا العالم الجديد؟ أنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى . وليس الإنسان الأعلى على الإنسان المبدع. ومن أجل هذا الإنسان الذى اشتدت حاجتنا إليه كتب هذا البحث، تحية للمبدعين الحقيقيين ولكل من يساعدهم على فهم أسرار الإبداع

السبت، ديسمبر ٠٢، ٢٠٠٦

علم النفس التحليلي * كارل جوستاف يونغ

نظرية يونج / 1875 – 1961
علم النفس التحليلي
Analytical psychology



* هو علم النفس بطريقة كارل جوستاف يونج أو ما يطلق عليه علم النفس التركيبي
وتقوم نظرية يونج النفسية على نظرية فرويد النفسية إلا أنه أعطاها أبعاد ومفاهيم مختلفة فمثلا ً
مفهوم اللاشعور
الذي تقوم عليه نظريات التحليل النفسي لا يقصد به يونج ما قصده فرويد فقد قسمه إلي
1- لا شعور شخصي : يضم خبرات الفرد الذاتية
2- لا شعور جمعي : يضم خبرات المجتمع عامة وكل ميراث السلف

* الماضي الطفولي عند يونج يضع السلوك الحاضر كواقع ويوجه السلوك في المستقبل كإمكان فيونج يرى فى الخبرات الطفولية المكبوتة في اللاشعور محرك قوي للإبداع عند الفرد ولم يكتف بذلك وحسب بل دعى إلى ضرورة النظر إلى المستقبل، فمستقبل الفرد ومقاصده عند يونج لها أهمية كبيرة في توجيه سلوكه كأهمية الماضي تمامًا ، فالسمة البارزة في نظرية يونج هي جمعه بين الغائية والعليّة وقد عبر يونج بجملة " إن الإنسان تحركه الأهداف بقدر ماتحركه الأسباب
أهم المباديء التي تقوم عليها نظرية يونج ::
1- مبدأ القطبية :
* إقتنع يونج أن العالم بأسره قد وجد بسبب التعارض القائم بين الأشياء فهناك دائما تعارض وهذا التعارض يستدعى الصراع والحياة بدون صراع لا تساوي شيئًا فالصراع هو المادة الخام الأساسية للحياة وهو الذي يدفع للأمام ، فالحياة والحركة وتغيير الاوضاع ممكنة فقط تحت ظروف الضغط والرغبة في إزالته عن طريق القوة المضادة وهي التي تجعل الشيء الأصلي يتحرك في صورة عمل . فكل شيء له مقابل "حياة / لاحياة " " شعور / لاشعور " " ضحك / بكاء " .
* يقترح يونج أن هذة التعارضات ينتج عنها نهاية سعيدة للقصة بحدوث حالة توازن بين هذه القوى حتى لو كان قصير الأمد ولكنه دليل على حدوث تقدم

أساليب النفس لحل الصراعات في مبدأ القطبية :
1- التعويض 2- الإتحاد 3- التعارض
التعويض
· عندما تشعر الشخصية بأنها في حالة صراع نتيجة عجزها عن تحقيق هدف مرغوب فيه فإنها تبحث لنفسها عن أهداف أخرى لها نفس الجاذبية ويترتب على تحقيقها إزالة هذا الصراع

· لا يكون للفعل الرمزي نفس قوة الفعل المادي واهميتة فى عملية التعويض فالحلم مثلا ً بتحقيق شيء ما والسيطرة عليه ورغم أهمية الحلم كظاهرة سلوكية في نظر يونج ليس فعلا ً تعويضيًا حقيقيًا
· يظهر التعويض بين الإتجاهات والوظائف المختلفة للشخصية فقد يظهر التعويض بين الإنطواء والإنبساط فإذا كان الإنطواء هو السائد في الأنا الشعوري فإن اللاشعور يقوم بعملية تعويضية ويقوى الإنبساط المكبوت ، وإذا كان الشخص على المستوى الواعي من النوع الفكري الوجداني فعلى مستوى اللاشعور يكون من النوع الحسي الحدسي


الإتحاد :
· فقد تتحد قوتين مثلاً للبحث عن حل مناسب لكليهما ويعبرعن ذلك بالمثل " أنا وأخي على إبن عمي وأنا وإبن عمي على الغريب " ، أي عندما يسود الإتحاد بين قوتين متعارضتين تستنفذ الطاقة المكبوتة في قوة ثالثة عي سبيل المثال ( اتحاد دولتين متصارعتين لمواجهة دولة أخرى تهدد كلتيهما ) .
التعارض :
· يمثل بمثال التلميذين اللذين يتنافسان مل أجل الحصول على أعلى تقدير في الإمتحان يؤدي الصراع بينهما إلى حفز كل منهما على العمل وأن يصل إلى ما وراء مجرد التنافس على الدرجة ألا وهو التعلم

يرتبط مبدأ القطبية بمبدأين آخرين هما :
1- مبدأ التعادل 2- مبدأ الإنتقال
أ- مبدأ التعادل :
· مستمد من الطبيعة ويسمى بمبدأ حفظ الطاقة فالطاقة التي تستخدم لتغيير حالة شيء ما لا تختفي ولكن سوف تعود الى الظهور بصورة أخرى في شيء آخر ومن هذا المبدأ يقول يونج أنه إذا ضعفت قيمة معينة أو إختفت فإن مجموع القوى الذي تمثله القيمة لن تفقدها النفس وإنما تعود إلى الظهور مرة أخرى في قيمة جديدة فإنخفاض قيمة ما يعني بالضرورة إرتفاع قيمة أخرى .
· وعندما نكبت الرغبة في التعبير عن القيمة الجديدة تصدر الحياة الرمزية للإنسان والتي من خلالها يحلم الفرد او يوجه أنشطته في الخيال نحو هدف مرغوب فيه ، فالطاقة المحفوظة يعاد توجيهها نحو الشيء المرغوب فيه من خلال عالم الحلم سواء كانت أحلام نوم أو أحلام يقظة لدرجة أنه قال ( أن الإنسان قد يرى بالحلم طريقه الذي يسلكه نحو حل صراعاته

ب- مبدأ الإنتقال :
· هذا المبدأ الثاني المستمد من الطبيعة وهو يقرر أنه عندما يوصل جسمين مختلفين بدرجة حرارتهما ببعضهما البعض فإن الحرارة تنتقل من الجسم الأعلى حرارة إلى الجسم الأقل حرارة ، المهم في ذلك أن يكون الجسمان من نفس النوع أو النمط كالإنسان والإنسان والمعدن والمعدن ، فعندما يتصل الجسمان فإن الجسم الأعلى شحنة يفقد بعض من شحنته إلى أن يتساوى الجسمان بالنسبة للخصائص المتبادلة والحالة التي تنتج من ذلك هي فقد الطاقة عندما يحدث التوازن بين الجسمين

· ولكن هذا ينطبق على الأنظمة المغلقة لا على الشخصية لذا لن تصل الشخصية إلى حالة توازن بين شخصين لكن كلما إقترب الانسان لهذا التوازن بالتوافق بينه وبين الآخر في الصفات كلما إقترب للطمأنينة والأمن
· وفي ضوء مبدأ القطبية وبمدأي التعادل والإنتقال يفسر يونج كثير من النظم التي تظهر واضحة في الشخصية فعنده }الشعور ضد اللاشعور ؛ الأنيما ضد الأنيموس ؛ العليّة ضد الغائية ؛ الإعلاء ضد الكبت ؛ التقدم ضد النكوص ؛ الإنبساط ضد الإنطواء { وهكذا

2- مبدأ تحقيق الذات
· الهدف الأساسي من نمو شخصية الفرد هي تحقيق ذاته وقد كان يونج من النوع المتفائل ووجد أن مستقبل الإنسان أفضل من الماضي فالإنسان يعمل في مجموع لتحقيق السعادة ولكنة يعمل وينمو بشخصية فردية " مفهوم التفردن عند يونغ "
مكونات الشخصية عند يونج :
* ( الأنا – الذات – الشعورــ اللاشعور بشقيه " فردي وجمعي " ــ القناع ــ الإتجاهات " إنبساط وإنطواء " ــ الظل ــ الأنيما والأنيموس )
الأنــا Ego ::
· الأنا تشمل فقط العقلية الشعورية للإنسان " هي العقل الواعي في صلة الإنسان بالواقع وهو مسؤول عن العمليات الشعورية كالتفكير والإدراك والإحساس والفهم والتوحد
· من خلا الأنا يعرف الإنسان نفسه وهو خير ما يعرفه الإنسان من مكونات شخصيته فهو الذي يوقظه وينبهه ويذكره بالأشياء التي يجب عليه القيام بها وكذلك يتخذ له القرارات الهامة في حياته اليومية .
· الأنا يوجد في مركز العالم الشعوري ولكنه قد يدخل في صراع مع العالم اللاشعوري فمثلا ً الشخص الذي يعيش على مستوى الأنا الشعوري يغضب جدًا لفكرة أنه بداخله لا شعور ويشعر بأن هناك جزء من شخصيته خارج إكار تصرفه فهذا يشعر بالنقص والضعف حيال شخصيته إذ يوجد جزء لا يستطيع هو التصرف فيه.
· كلما إزداد الأنا بإنكار اللاشعور زادت حدة اللاشعور في إثبات وجوده عن طريق الأحلام مثلا ً أو عن طريق صراعات القلق والأعراض السيكوسوماتية ؛ ويظل الإنسان بحالة صراع بين الأنا واللاشعور إلى سن 40 والتي تظهر فيها " الذات " وهي ذروة البناء النفسي وتستخدم كل الحالات اللاشعورية والشعورية عند الفرد ، فالذات هي وريثة دور الأنا القديم ولكن بتصالح مع اللاشعور

اللاشعور الشخصي Personal unconscious
· يقول يونج أن الخبرات التي يمر بها الشخص لا تنسى ولا تختفي تمامًا إنما تصبح جزء من لاشعوره الشخصي وتلك الخبرات أما أن تكون قد كبتت لا إراديًا أو قمعت إراديًا بإعتبارها ذكرى مؤلمة للأنا أو أنها من الضعف بحيث لم تترك إنطباع شعوري في النفس ( واللاشعور الشخصي في حالة إتصال دائم مع الأنا لتساعده في حياته إلا أن الكبت قد يحول دون ذلك ورغم ذلك فإن تيار الإنتقال حر بين الشعور واللاشعور الشخصي


اللاشعور الجمعي collective unconscious
· يعتبر هو السمة المميزة لنظرية يونج في الشخصية ففيه تختزن الخبرات المتراكمة عبر الأجيال والتي مرت بالأسلاف القدامى وهو الأساس العنصري الموروث للبناء الكلي للشخصية فعليه يبنى الأنا واللاشعور الشخصي وجميع المكتسبات الفردية الأخرى.

· قد قال يونج بوجود أنماط أولية في اللاشعور الجمعي مثل ( الله ؛ الأم ؛ الأب ؛ الطفل ؛ الشيطان ؛ الميلاد ؛ الموت ) والنمط " هو شكل فكري مشاع وعام يتضمن قدر كبير من الإنفعال به ، وكلما كان التوازن بين النمط الأولي وصورته الفعلية بالواقع كبير كلما كان هناك إستقرار في البناء النفسي ، كصورة الأم مثلا كلما كانت الأم الفعلية مطابقة في حقيقتها للموروث المصاحب لثقافة أو نمط الأم كلما كان الإستقرار في بناء الفرد الواقع تحت سلطة تلك الأم

العقد COMPLEXES
· هي تجمع لخبرات وتجارب تتمحورحول نقطة معينة يظل الفرد يتحدث عنها مرارًا وتكرارًا في حياته وتكون هي محور كل تفسيراته ومن أمثلتها " عقدة الأم – عقدة الأب – عقدة القوة " ؛ وبرغم أنها تكون خبرات تركت أثرًا في الأنا نتيجة لتكرارها إلا أن لها ميزة تفسير الخبرات التي سبق أن تكونت حول العقدة وهذا ما يسميه يونج ( قوم تجمع العقد ) .
· في معظم الأحيان توجد العقدة ونواتها في اللاشعور الشخصي والفرد لا يكون على معرفة تامة أنه يفسر أو يستخدم الكثير من الظواهر العرضية الغريبة في خدمة عقدته .


القـــــــــــناع persona
· هو مصطلح يوناني قديم إسمه " برسونا " ومعناه القناع ؛ إتخذه يونج ليصف به الوجه الذي يتقدم به الإنسان للمجتمع ؛ فنحن في حياتنا اليومية قد نجد ضرورة لأن نغلف الذات الحقيقية بغلاف خادع ونلبسها قناع لتبدو مع العالم في مظهر لائق يتفق والجماعة . وأسماه يونج أيضًا قناع العقل الجمعي أو القناع الذي يخفي وراءه الفردية الخاصه بالفرد ذاته .
* مشكلة القناع عند يونج تأتي من أن الإنسان أما المجتمع مستترًا وراء قناعه قد يبدو غريبًا تمامًا عن وجداناته ومقاصده الحقيقة ؛ فالإنسان يتحصل على القناع من الدور الذي يطالبه المجتمع بالقيام به ؛ وكلما كان الدور يناسب وجدان الإنسان أكثر كلما كانت حدة القناع في التأثير أقل وكلما كانت الغلبة لتحقيق الذات أكثر . فكلما إنتعد الإنسان عن تحقيق ذاته وراء قناع فقط يخدم صورته بزيف أمام المجتمع كلما أصبح أقرب إلى الحالة المرضية منه إلى السواء .
* والقناع هو جزء من الأنيَّة مُنْدارٌ نحو العالم الخارجي. وهو، باعتباره من مظاهر السلوك النفساني الذي هو عبارة عن الموقف العام للفرد بإزاء محيطه، إنما هو "تسوية بين الفرد والمجتمع من جهة ما يبدو عليه الفرد"؛ أو قل هو "مركَّب وظيفي مكون لأسباب تكيِّف أو راحة، لكنه يفترق عن الفردية. وهذا المركب الوظيفي لا يخص إلا العلاقات مع الأغراض


* الشخص السويّ من الوجهة النفسية يأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل في آنٍ واحد:
أ. الأنيَّة المثالية (الصورة التي يراها الفرد مرغوبة)
ب. الصورة العامة التي يشكلها المحيط عن أذواق الفرد ومُثُلهج. الطوارىء النفسية والنفسانية التي يمكن أن تحدّ من تحقيق المثل المفترضة أو تعرقل هذا التحقيق

* مصطلح القناع يشير إذن إلى المشخِّص الاجتماعي الذي، وإن كان يتصف بفوائد وخواص الثوب التي لا يُستغنى عنها، فإنه غالباً ما يعرِّضنا لستر طبيعتنا الفردية. فالقناع قد يكون عامل حماية (وتكيُّف) للفرد مثلما قد يكون خطراً عليه: حجب طبيعته الحقيقية، خطر تواحده مع قناعه (بأن يظن أنه قناعه وأن قناعه هو)، الخطر الذي ينطوي عليه في الوقت نفسه الافتتان بالقناع (كأهمية المهنة المبالغ فيها لدى بعضهم) أو خطر تحجُّر القناع إلى حد وخيم
الأنيما والأنيموس Anima And Animus
· قال يونج بأن الإنسان ثنائي الجنسية فالأنثى تمتلك بداخلها حسًا ذكوريًا يسمى الأنيموس وهو ميل للرجال بصورة تتوافق مع تلك الأنيموس الداخلية بذاتها وكذلك فالرجل يمتلك أنيما ويميل للأنثى التي تحقق له التوازن بين صورتها في نفسه والواقع الملموس له .
· من هنا تنشأ قدرة الرجل والمرأة على فهم كل منهما الآخر بما يملكه في نفسه من جزء منه ؛ والدليل على إمتلاك كل منهما جزء من الآخر على سبيل المثال لا الحصر مثلا ً أنه في الشيخوخة يتخذ الجانب المهمل حيزًا من الظهور على النواحى الجسمية للفرد كإخشوشان الصوت عند المرأه ورقة الملامح عند الرجل

الظل Shadow
· الظل يمثل الغرائز الحيوانية او الأفكار المستهجنة والدوافع الشهوية بشخصية الفرد ؛ فهو يقوم بمقام الهو عند فرويد حيث يمثل السلوك السيء خلقيًا والذي يستحق التأنيب وهو بالأصل موروث من اللاشعور الجمعي عند الإنسان
· الظل مشكلة خلقية تتحدى شخصية الأنا كلها

· تعبِّر الخافية الفردية عن نفسها من بعدُ بمشخِّص الظل الذي يرمز إلى "وجهنا الآخر"، "صِنْونا"، "شقيقنا المظلم" الذي من جنسنا نفسه والذي، على كونه غير مرئي، لا يفارقنا أبداً ويشكِّل جزءاً لا يتجزأ من كلِّيتنا. وهو صورة أحلامية غالباً ما تتميز بخاصيَّة سوداء؛ ففي الأحلام غالباً ما يترافق اللقاء مع الظل

أو خلعه على بعض معارفنا، مع استيعاء نمط الوظيفة النفسية السائدة ونمط موقف الفاعل. إنه "الطرف المقابل" لأنيَّتنا الواعية: "كلنا متبوع بظل، وكلما قلّ اندماج هذا الظل في الحياة الواعية للفرد كان أشدّ سواداً وقتامة."
· والظل بعامة شأن بدائي، غير متكيِّف، شقيّ، لكنه ليس بالضرورة "شريراً": إنه يمثِّل كل ما نُحِّي عن الوعي باعتباره متنافراً مع الأنا، وقوامه عيوبنا، ونقائصنا، وبعض خصالنا المنبوذة بمقتضى الأحكام المسبقة الاعتباطية، المشدودة بدورها إلى مشكلة القناع (الذي يمكن حينئذٍ أن يحول دون البسيكي والتفتح السوي)، بالإضافة إلى منتجات الوظيفة النفسانية الأقل تمايزاً. واللقاء مع الظل على هيئة حوار بينه وبين الأنا، إبان حلم على سبيل المثال، لحظة مُكرِبة جداً: فالأنا تتعرض لخطر الغرق في النوازع المكبوتة التي تقرّ بنسبتها إليها والتي تتضادد ونوازعَها الواعية.
· على أن للظل معنى أوسع بكثير، ويمكن الإشارة به إلى الخافية في جملتها، من حيث إن كل ما لم يلج بعد عالم نور الوعي يظهر للعيان مفعماً بالظلمة ومنذراً بالشر والخطر

من مميزات الظل التي قال بها يونج ::
1- ينحو بالإنسان نحو الأفضل من خلال إختبار الخبرة السيئة فيتعلم كيف يتلاشاها
2- الإنسان يحقق كمالية على الظل بحل خلقي ملحوظ ينتج عن إعادة التوجيه لبعض أفكاره ودوافعه بما يرضي أناه
الذاتself
· هي أهم الأنماط عند يونج حيث قال أن الذات التي تقع في موضع وسط بين اللاشعور والشعور تكون قادرة على إعطاء التوازن للنفس ككل فهي تحفظها في حالة إستقرار وثبات نسبي
· قال ان الانسان يحقق هذا الثبات النسبي في سن متقدمة بعد أن يكون قد تغلب على تهور المراهقة والإتجاه نحو العالم الخارجي في بداية الرشد فحيت يتقدم الفرد نحو متوسط العمر تحل إتجاهات الإنطواء محل إتجاهات الإنبساط وهكذا

ميكانيزمات تحقيق الذات :
1- عوامل القطبية ومبدأي التعادل والإنتقال .
2- النظام البيولوجي المجهز بالغرائز التي تحفظ النوع وتعمل على إستمرار الحياة .
3- تطلع الفرد للمستقبل فهو لا يعيش في خبرات الماضي فقط
4- بلوغ التحقيق الكامل للذات عبر مراحل نمو الشخصية فقد استثمر الليبيدو في ألوان من النشاط تكون ضرورية لبقاء الحياة فقبل سن الخامسة تبدأ القيم الجنسية وتبلغ قمتها في المراهقة وفي مرحلة الشباب ويستكين الفرد في الأربعينات حيث يحدث تغيير حاسم في قيمه وأهدافه .
5- خبرات الفرد تتيح تحقيق الذات فلو أهمل جزء من نظام الشخصية في مرحلة ما سوف ينشط كمركز للمقاومة وإذا كثرت مراكز المقاومة وأصبح الفرد عصابيًا . فلكي نسمح بنمو تحقيق الذات يجب السماح لكل نظام من أنظمة الشخصية ببلوغ أقصى درجات النمو ويسمى ذلك بعملية التفرد .
6- الرموز قادرة على تحقيق الذات فكثير مما يقوم به الإنسان ممكن أن يوجه إلى مستوى رمزي من خلال الصور والكلمات والأحلام والموسيقى والفن فالرمزية التي يتمتع بها الإنسان تساعده على بلوغ أعلى مستوى تمايز للذات .

لتحقيق الرموزعند يونج وظيفتين أساسيتين :
1- تمثل مستودع خبرات الأسلاف
2- تمثل المستويات الطموحية للإنسان

يقول يونج :: أن الناس دائما ما تسعى إلى إيجاد الشركاء الذين يجدون معهم ما يفتقدونه بأنفسهم " مبدأ القطبية والتعويض "
الموت الإرادي عند يونج : هو تعبير أطلقه يونج عندما يغوص الإنسان في عالم الظل ويصبح عبد للأفكار المستهجنة وتحقيق الشهوات لا أكثر
فكرة تحليل المحلل النفسي :
يونج أول من نادى بها وأخذها عنه الفرويديون وهي ضرورة أن يخضع المحلل النفسي ذاته للتحليل أولا ً .
نشأة الوعي عند يونج :
كيف ينشأ الوعي ؟؟؟ " قال يونج أن لا مشكلة بلا وعي أي كلما إزداد وعي الإنسان كلما كانت المشاكل قادرة على الظهور فبدون وجود الوعى لما تمكن الإنسان من التعرف على الأشياء ولا على إدراك أن تلك الأحداث تمثل مشاكل وتلك الأحداث لا تمثل مشكلة ويمكن معرفة ذلك بمراقبة الأطفال وملاحظة كيفية تصرفهم عند التعرف على شيء لأول مرة ولكن المعرفة هنا أيضًا لا تعنى الوعي وإنما ينشأ الوعي من القدرة على الربط بين تلك المعارف بعضها البعض


كما قال بأن الراصد في علم النفس يتعذرعليه أن يكون موضوعيًا من حيث أن رصده سيكون فيه بعض من البناء على موضوعات ذاتية وشخصية سابقة وقال بأن كل ما هو نفسي حقيقي جدًا وواقعي كما العالم المادي .
إختلافات يونج مع فرويد ::
· ساورت يونج الشكوك بخصوص تركيز فرويد على الجانب الجنسي في تفسير تعقيد شخصية الفرد وهذا لم يستطيع يونج تقبله وقال أن هناك مرضى ترجع إضطراباتهم إلى خارج النفس

· ومن هنا بدأ تمييز النمطين " الإنطوائي والإنبساطي " وقد إستنتج ذلك من مرضى الفصام الذين يستغرقون بدواخل أنفسهم فلا يمكن أن ننسب حالات الفصام مثلا ً إلى مشاكل جنسية . وفرويد الذي لم يعمل يومًا مع مرضى الفصام لم يوافق على ذلك وقذف بتلميحاته السوداء تجاه عمل يونج بأنه خائن وبعد ذلك بدأت علاقتهما تنحل بسرعة .

· من خلال الأحلام قرر فهم ما أسماه أزمة منتصف العمر وبدأ بحثه فيما أسماه نيكيا Nekyia أو الرحلة الليلية للروح فقد كانت أحلامه تتضمن صور وحوش وأساطير وهي تتطابق مع أحلام مرضى الفصام فأرجع ذلك إلى ما يسمى النموذج الأصلي الموروث ومن هنا نشأت فكرة اللاشعور الجمعي

· قال أن الاخصائي أوالمحلل النفسي لينجح في عمله عليه الإندماج في الأماكن التي تتيح له التعامل الفعلي مع الحالات لا أن يغوص بالدراسة فقط

· قال بأن العلاج ما هو إلا عملية توليد للحقيقة ومنهجه في العلاج منهج المصارحة بلا تحايل أو مواربة بين شخصين " المعالج والمريض " وذلك بقصد تحقيق الوعي فهو لا يخشى التحويل كفرويد إذا يرى أنه وسيلة لإظهار المضامين الخافية وقال بأنه لا يجب وضع خطة للعلاج فأحيانًا تصدر أشياء غير متوقعة قد تربك المعالج .
· يقول يونج بأن الرؤية الصحيحة للفرد تتحقق عندما بتمعن في ذاته فمن ينظر خارج حدود ذاته يحلم ؛ أما من ينظرون داخلها يستيقظون لتحقيق الحلم
· أخذ يونج على فروبد أنه لا يأخذ في الحسبان قدرة المنظومة النفسية على إبداع عدد ومواد جديدة ويأخذ أيضًا عليه إفتراضه أن الرمزية لا تمت بصلة إلا إلى الماضي برغم أن الواقع التجريبي يقول ان الحلم مسرح لعمليات لم تكن يومًا واعية وهو ما أرجعه يونج لموروث اللاشعور الجمعي وقدرة الإنسان على إبداع رموز متنوعة إبداعًا فطريًا

· يأخذ يونج على فرويد ( التداعي الحر ) إذ يتصف بالتقليص الذي لا يتيح إلا تفسيرًا إرجاعيًا يختزل الحلم إلى ثوابت موضوعه سلفًا تفتقر إلى المرونة والشمول ففرويد يربط أحلامنا بخواطرنا ومشكلاتنا الواعية بسببية حتمية جاعلاً من الحلم الطريقة الايسر لبلوغ المركبات أما يونج فيقر من جانبه كل الإقرار بأن أحلامنا يمكن أن تكون منطلقًا لفن التداعي الحر في التنقيب عن الثيمات الوجدانية المكبوتة

· يقابل يونغ منهاج فرويد الممعن في السببية الحتمية بمفهوم الظرفية ( الظروف المعينة تتمخض عن أحلام من نوعها ) بوصفه الإطار العام الذي يسمح بفهم الأحلام؛ إذ أن المغزى من ثيمة محددة في حلم ما لا يصح استنباطه بالاشتراط السببي وحده ؛ إنما كذلك بقيمة موقعه في سياق الحلم إجمالا ً وخطورة هذا الموقع " فالحلم يترجم حال اللاشعور في لحظة معينة " ؛ ويؤدي في الحالة السوية وظيفة تكاملية بالنسبة للشعور بما يستهدف حل النزاعات النفسية إن وجدت . الأمر الذي يضفي عليه قيمته الإستباقية المنذرة

· قال يونج أن تحليل الأحلام هو فعل متبادل بين شخصين " المحلل والمريض " ويجب أن يكونا متقاربين لكي يتم التفاهم بينهما ومن هنا فنمطي شخصيتيهما يلعب دورًا هاما ويتدخل تدخلا ً حاسمًا في تحليل الحلم . فكلما كانا من نفس النمط كلما كان التحليل أدق في وصفه لما يحتويه الحلم
· قال يونج بأن إستعمال الأحلام سبلا إلى المركبات أو منطلقات للتداعى الحر ليس إلا إستعمالا ً مبتورًا ومبتسرًا لغنى الحلم وتغييبًا في الوقت نفسه لواقع تجريبي أصيل هو أن الرموز التي تظهر في الأحلام أكثر تنوعًا وأغزر دلالة من الأعراض الجسمانية للعصاب
· إذن يجب عدم التفتيش عن معنى الحلم بما يشكل كلاً تاما عن طريق التداعى الحر لان من شأنه ـ أى التداعى ـ أن يصرف الانتباه عنه

· الحلم كما يرى يونج محصول طبيعي ينبغي إعمال النظر فيه بما هو كذلك ؛ أي على نحو ما يتم التأمل في زهرة بديعة أو لؤلؤة نادرة فمن الثابت على سبيل المثال لا الحصر ان العديد من الصور الاحلامية ترمز بوضوح الى الوصال الجنسي لكن المهم في الأمر ليس كام رأى فرويد الإمساك بالتلميح الى الوصال بل الأحرى فهم الموقف النفساني الإجمالي الذي نجم عنه إختيار هذة الصورة أو تلك الرمز إلى الوصال دون سواها . فالرموز التي "يستعيرها" الحلم لرسم وضع ما ليست مجرد إشارات أو كنايات تختلقها وظيفة "رقيب" censorship تفيد ستر هيئات عن حالة الصحو، على حد ظن فرويد، بل هي صور تنطوي على علَّة وجودها وتمتلك ديناميَّة خاصة بها. والمغزى منها لابدّ أن يتجاوز كافة التفسيرات التي نضعها لها لأن من شأن الرمز على وجه الدقة أن يجعل الواعية على صلة بما هو "مجهول ولا يرقى إليه علم قط


تأسيساً على ما تقدَّم، ذهب يونغ مذهباً مغايراً في تحليل الأحلام ورموزها يشتمل على: وصف دقيق للموقف الواعي الراهن (يمكن للرموز أيضاً أن تظهر في حالة الصحو على هيئة أطياف وانطباعات بصرية أو سمعية)، وصف للأحداث الماضية، تحديد للسياق الأحلامي والحيوي الإجمالي للمعاود، إضافة معلومات تُلتمَس لدى جهات أخرى غير المعاود عند الاقتضاء، وأخيراً، شَمْل للمتوازيات الميثولوجية المتعلقة بالثيمات البائدة التي تبرز في الحلم. هذه العملية الأخيرة، في مقابل التفسير الإرجاعي الفرويدي، تدعى التوسيع amplification. فالطبيعة الموضوعية ذات الاستقلالية autonomy للرمز ووجود خافية جماعية ييسِّران للحالم تخطِّي تداعياته الشخصية وفحص كل المدى الممكن للصورة المقترَحة على وعيه مستفيداً من المواد التاريخية المرتبطة بها. إن من شأن التوسيع إطلاق المضمون الأحلامي وإغنائه بكل الصور المشابهة الممكنة في سبيل فهم أفضل للحلم الفردي. ولامندوحة للمحلِّل عندئذٍ أن يأخذ بالحسبان كافة جوانب الحلم، على تنوِّعها الشديد، وأن يحصِّل معارف ميثولوجية ودينية وفلسفية واسعة
وبالفعل، فإن فهم الحلم بحد ذاته (بدلاً من الانصراف انطلاقاً منه إلى مركَّبات المريض والابتعاد بذلك عن الحلم مبنى ومعنى) يتطلب بذل مجهود جبار للتركيز على التداعيات أو الترابطات التي تعود إلى الحلم مباشرة معبِّرة عن أمر محدَّد ونوعي تماماً يحاول الحلم أن يبلَّغنا إياه. هنا لابد لنا من الإلماع إلى الخيال الفعّال active imagination الذي يتمثل في تثبيت الانتباه على صورة غالباً ما تُستقى من حلم، وإعمال النظر في جوَلانها الحرّ. إن المخيلة الفعالة التي تنهض فيها الأنا بدور الشاهد الساهر هي على النقيض من الاحتلام أو الهاجس، من حيث إنها قد تأتي بأداة مثالية من أجل إيناع المواقف الأحلامية. فأجمل الصور قد تبقى غير ذات جدوى ما دامت الأنا لم تستوعِها بفعلٍ قد يكون، بحسب الحالة، داخلياً أو خارجياً؛ وعندئذٍ فقط يمكن الحديث عن تكامل أو تحقق نفسي
· لا يطمئن يونغ إلى منهاج التداعي الحرّ في تفسير الأحلام لسبب بسيط هو تعذُّر تطبيقه على حالات الأحلام النموذجية البدئية التي تعود بما لا يدع مجالاً للشك إلى الخافية الجامعة. لقد ميَّز يونغ بين التخلُّقات fantasies والأحلام المعبِّرة عن التفتح الشخصي للمرء من جهة، وتلك التي لمس فيها خاصية شمولية أو قواسم مشتركة بين الأحقاب التاريخية والحضارات كافة. فإذا كان التداعي الحرّ يصلح منهاجاً للولوج إلى الخافية الفردية النسبية، وحدها الأحلام "العظيمة" تفتح الباب على مصراعيه للولوج إلى الخافية الجامعة. هذا المنظور ييسِّر من جانب آخر استنطاق الأحلام عن المزيد مما يختبئ بين ثناياها: كأنْ نهتدي بها، لا إلى المركَّبات، بل إلى البنيان النفسي للشخصية الكلِّية للفرد، أي أن تمهِّد لنا الطريق للقيام بالخطوة الأولى الحاسمة على درب التَفَرْدُن Individuation
· للحلم إذن، بحسب يونغ، قيمة عرفانية، إذا جاز التعبير، وليس على الإطلاق مجرَّد تعبير عن رغبة غير مشبَعة: إنه رسالة تعلِّمنا عن نفسنا الكلِّية أموراً أعمق بكثير من هذه الرغبات المكبوتة
· وأخيراً يأخذ يونغ على فرويد اعتبارَه الصور والتداعيات التي تشبه في أحلامنا أساطير الأولين مجرد مخلَّفات بائدة – وهي وجهة نظر تميِّز كل من يعتبر الخافية ملحقة بالواعية أو تابعة لها، أو "حاوية قمامة" يرمى فيها كل ما ترغب الواعية عنه أو تستهجنه أو تستحي منه. إن فرويد، إذ يتصور هذه التداعيات على هذه الشاكلة، تغيب عنه الوظيفة الفعلية لهذه الصور، بما هي الجسور الواصلة بين فلك الواعية العقلاني من جهة، وبين عالم الغريزة والفطرة من جهة ثانية

· من الممكن فهم الدور المجازي للحلم انطلاقاً من أن لكل كلمة معنى يختلف من شخص لآخر اختلافاً طفيفاً نسبياً (حتى عندما يتعلق الأمر بأشخاص ينتمون إلى بيئة ثقافية واحدة)؛ وهذه الاختلافات تنويعات فكرية أو وجدانية تحت وصيدية subliminal غير مستوعاة عموماً، لكنها تتخذ في الأحلام أهمية عظيمة. إن من شأن جذور خواطرنا الواعية هذه أن تعلِّل لماذا يمكن لأغراض عادية محددة (حُجرة موصدة بالمفتاح، قطار فائت، سيارة خارج عن سيطرة سائقها، لغم بحري، إلخ.) أن تكتسب لدينا مغزى هو من القوة بحيث يجعلنا نستيقظ أحياناً من نومنا مذعورين.
· إن الإنسان الحديث يعيش في عالم موضوعي أمْعَنَ في تجريده من كل ما يطلق عليه علم النفس اليونغي، أخذاً عن ليفي–برول، تسمية المشاركة الصوفية participation mystique أو حتى التواحد النفسي identification psychique. بيد أن هذه الهالة من التداعيات غير الواعية التي تضفي على الحياة النفسية للإنسان "البدائي" ذلك المظهر "الطيفي"، السرَّاني، الخارق، لابد لها من معاودة الظهور في أحلامنا، من حيث إن هذه الأحلام رسل لاغنى لنا عنها لتبليغ المعلومات الحيوية من القسم الغريزي، الفطري، من الذهن البشري إلى قسمه العقلاني، الواعي

· الأحلام إذن، بما هي حضور الخافية في الوعي (بمعنى غير بعيد عن التصوُّر الإغريقي عن وسيطة الوحي pythia في هيكل ذلفس)، هي الوسيلة التي تُكامِل بها الخافيةُ الواعيةَ أو تعوِّضها وتُوازنُها. ومما يؤسف له أن المدرسة الفرويدية أهملت هذه الوظيفة المعاوضة والعرفانية للأحلام (الأحلام التي يظهر فيها الظل على سبيل المثال)

الأشياء التي إلتزم بها الفرويديون الجدد من نظرية فرويد ::
1. التداعي اللاشعوري .
2. الكبت والمقاومة وأهمية ذلك في التحليل أثناء العلاج .
3. الإهتام بالنزاعات الداخلية وأثرها على التكوين النفسي .
4. التأثير المستمر للخبرات الطفولية المبكرة .
5. طريقة التداعى الحر وتحليل الأحلام وإستعمال حقيقة النقل

الخميس، أكتوبر ٠٥، ٢٠٠٦

المرأة التي لاتنسى

حول المرأة
المرأة التي لاتنسى
الدكتور / حسن المالح
يقوم الدماغ الإنساني بالتقاط وتسجيل وتخزين معلومات هائلة .. من خلال ما يدور في العقل من انطباعات وأفكار وخيالات وأيضاً من خلال ماتسجله الحواس أثناء الحياة اليومية .. ومعظم هذه المعلومات لاتبقى في الذاكرة .. حيث يقوم الدماغ بعملية تنظيم وتنظيف وحذف مستمرة للمعلومات التي يحملها .. ويتم ذلك خلال فترة الصحو وخلال النوم أيضاً
ومن الناحية العملية يتذكر الإنسان المعلومات المرتبطة بكمية كافية من الانفعالات .. السلبية أو الإيجابية .. وكلما كانت المعلومات جافة أو حيادية أو لاتحمل قدراً متميزاً من الانفعالات .. كلما كانت أسهل وأسرع في نسيانها .. وكذلك المعلومات السريعة غير المتكررة .. والمعلومات غير الهامة بالنسبة للشخص
وبالطبع فإن الذكريات الأولى الطفولية تدوم فترات طويلة .. وكذلك الحب الأول .. والمرأة الأولى .. ويختلف الأشخاص في قدراتهم على التجدد وعلى بناء ذكريات جديدة .. وبعضهم يقلب صفحات ذاكرته ويكتب صفحات جديدة ببطء وحذر .. وبعضهم يفعل ذلك بسرعة كبيرة وبعضهم بين هذا وذاك
وبعض الذكريات المؤلمة أو الخطرة يتم كبتها ونسيانها ظاهرياً .. ولكنها تبقى فاعلة ومؤثرة في البنية النفسية للإنسان وفي سلوكه وشخصيته .. ويمكن لهذه الذكريات أو أجزاء منها أن تظهر في الأحلام بشكل خفي أو مشوه .. كما يمكن لها أن تقترب من الظهور في الوعي خلال الضغوط النفسية أو الأزمات التي تحمل تشابهاً مع تلك الذكريات
" والمرأة الحلم " أو المثالية التي تسكن في عقل الرجل بعد أن ينشئها ويكونها تبقى زماناً طويلاً .. وكذلك المرأة المتميزة بشكل معين أو أسلوب معين أو صفات خاصة .. سلبية كانت أم إيجابية
وهناك " أيام لاتنسى " و " مواقف لاتنسى " و " شخصيات لاتنسى " و " ورجل لاينسى " و " إمرأة لاتنسى " .. وذلك وفقاً للمضمون الإيجابي أو السلبي الذي ترتبط به

والشخصيات المتفائلة والإيجابية تنسى الآلام والذكريات السلبية بشكل أفضل من الشخصيات المتشائمة أو الاكتئابية. بينما نجد أن الشخصيات الاكتئابية لديها ولع ومهارة في استرجاع مختلف أنواع الذكريات المؤلمة والسلبية .. ولديها أيضاً تحيز في ذاكرتها نحو المؤلم والمزعج .. ولايمكنها أن تكون موضوعية وحيادية في تعاملها مع مايمر بالذاكرة من أحداث ومواقف

ويقولون أن " الأسى لاينسى " وهذا صحيح عموماً ولكن يختلف الأشخاص في نسيانهم وتذكرهم وفقاً لتكوينهم وشخصيتهم وذكرياتهم

ويبدو أن تجربة الفقدان لها أثر كبير على الذاكرة .. وعندما يفقد الرجل إمرأته ( أو تفقد المرأة رجلها ) بشكل مفاجئ وغير متوقع فإن ذلك يشكل جرحاً كبيراً لايسهل اندماله ونسيانه .. أما الفقدان التدريجي والمتوقع والمطلوب .. فهو
أسهل على عمليات النسيان وأسهل على العقل في التكيف معه وهضمه
وختاماً .. من المفيد للصحة النفسية أن يتذكر الإنسان أموراً إيجابية وأن يسعى لإحياء مثل تلك الذكريات الجميلة .. وأن يحاول أن يهضم ذكرياته السلبية المؤلمة ويتحدث عنها ويحللها ويستفيد من دروسها .. ومن ثم أن يفتح صفحات جديدة مع الحياة .. دائماً

أساليب التعبير الانفعالي والصحة النفسية


أساليب التعبير الانفعالي والصحة النفسية
الدكتور حسان المالح
استشاري الطب النفسي / دمشق
*
*
هل الذي يغضب بسرعة يضحك بسرعة أيضاً ؟ وماهو الحد الفارق بين السوي والمريض في سرعة الانفعالات أو حجمها ؟
وفي الجواب على هذه التساؤلات يمكننا القول أن الناس يختلفون في سرعة استجاباتهم الانفعالية وفي حجمها وفي طرق التعبير عنها .. كما يختلف الجنسين في ذلك ، ويلعب العمر دوراً في شكل الاستجابات الانفعالية .. حيث نجد فرقاً واضحاً بين انفعالات الأطفال والبالغين والكهول . ويمكن للعوامل الوراثية والتكوينية أن تحدد درجة السلوك الانفعالي إضافة للعوامل التربوية والثقافية والاجتماعية وتجارب الحياة المتنوعة التي يتعرض لها الإنسان

وفي دراسة الانفعالات وتصنيف أشكال التعبير الانفعالي نجد أن هناك خمسة نماذج أساسية من أشكال التعبير الانفعالي .. وعلى سبيل المثال في حالة التعبير عن الغضب نجد في المجموعة الأولى بعضاً من الناس يرفع صوته أو يجادل الشخص الذي أغضبه بحدة . وفي الثانية يحاول الشخص أن يوضح ويشرح أسباب غضبه بهدوء وروية

أما الأشخاص في المجموعة الثالثة فهم يحاولون أن لايغضبوا لأنهم يعتقدون أن ذلك خطأ أو غير مقبول أو مناسب وفي المحموعة الرابعة يقولون أن غضبهم غير مهم ولايفصحون عنه ولايظهروه . وفي المجموعة الأخيرة الخامسة يقول الإنسان لنفسه أنه ليس غاضباً أصلاً وهو يتنصل من هذه الانفعالات ويبرر ذلك بأنه لايوجد هناك مايستحق الغضب أو يستدعيه

وهكذا نجد النماذج التالية
تعبير واضح وشديد عن الانفعال
تعبير هادئ ومنطقي عن الانفعال
هروب من التعبير الانفعالي
ضبط شديد للتعبير الانفعالي ومظاهره
تنصل من الانفعالات

وبالطبع هناك تداخل بين هذه الأساليب وهي تمتزج أحياناً وتتعدل وتصبح أكثر مرونة .. وفقاً لشخصية الإنسان وظروفه وأحواله
غير أن معظم الناس تتكرر أساليبهم التعبيرية السابقة الذكر في تعبيرهم عن معظم الانفعالات الأساسية مثل الحزن أو التضايق ، والخوف والقلق ، وأيضاً مشاعر الفرح والسعادة والمشاعر الدافئة كالحب والعطف ، إضافة لمشاعر الكره والغضب والقرف وغيرها
وهكذا قد يكون صحيحاً إلى حد ما أن نقول " أن الذي يغضب بسرعة .. يضحك بسرعة أيضاً " ، على اعتبار أن أسلوبه التعبيري سريع وحاد ويظهر ذلك في حال الغضب والضحك معاً ، وهو يستجيب للمثيرات الانفعالية المتنوعة وحتى المتعاكسة في نوعها بشكل مشابه . لآن هذا هو أسلوبه في التعبير عن الانفعالات

وعملياً فإن الحياة اليومية وتنوع المواقف فيها التي يتعرض لها الإنسان ، وما تتطلبه من مرونة وتكيف مستمرين تجعل الإنسان الناضج والناجح أكثر مرونة في طرق وأساليب تعبيره الانفعالية . وهو يضطر أحياناً أن يضبط نفسه وأن يكتم انفعالاً معيناً ، مع أنه في مواقف أخرى يكون أكثر سرعة أو حدة في تعبيراته الانفعالية

والحقيقة أن الأساليب التعبيرية الخمسة السابقة الذكر ليس فيها أسلوب واحد صحيح أو صحي .. بل هي جميعها أساليب مفيدة وسليمة .. حيث تعتمد الصحة النفسية إلى حد كبير على ضرورة المرونة وعلى اكتساب القدرات التعبيرية المتنوعة بدلاً عن التطرف والجمود في أشكال التعبير .. مما يضفي على الشخصية غنى وتنوعاً يتناسب مع الحياة العملية الواقعية ومع ضرورات التكيف

وفي الحالات المرضية نجد أن سرعة الغضب يمكن أن تكون جزءاً من حالات الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات الشخصية العدوانية أو أحد أعراض الإدمانات . كما أن التغيرات السريعة في المزاج من حالة الغضب إلى حالة الفرح أو البكاء تصف بعض الحالات النفسية مثل اضطراب الهوس الاكتئابي واضطراب المزاج الدوري ، إضافة لبعض الاضطرابات العضوية التي تؤثر على الحالة النفسية المزاجية الإنسان مثل التسممات المختلفة وحالات الخرف الشيخي وغير ذلك

ويتم تفريق التغيرات المزاجية الطبيعية عن المرضية من خلال شدة الانفعالات ودرجتها ومدتها ، إضافة الأعراض الأخرى المرافقة مثل فقدان النوم وازدياد النشاط وتسارع الأفكار والتفكير الخيالي كما في بعض الحالات النفسية الشديدة مثل الهوس ، حيث يرافق الغضب الشديد أعراض التهيج وازدياد الفرح والمرح والجرأة ولمدة عدة أسابيع .. يعود بعدها المزاج والسلوك إلى الحالة الاعتيادية ولاسيما إذا تلقى المريض العلاج المناسب

ولابد من الإشارة إلى أن الانفعالات تلعب دوراً رئيسياً في تكوين الإنسان النفسي . وكثير من الاضطرابات النفسية والعقد النفسية واضطرابات السلوك والاضطرابات الجسمية نفسية المنشأ ( كالصداع وآلام البطن والضعف الجنسي ) تجد تفسيرها في اختناق التعبير الانفعالي الصحيح والمناسب ، وفي الكبت المدمر للانفعالات الإنسانية الطبيعية ، وفي إلتواء التعبير الانفعالي الصحيح . ويقوم العلاج النفسي على بحث واستثارة الانفعالات المختلفة المرضية والتعرف عليها ثم التعبير عنها ومناقشتها دون خوف شديد أو قلق معطل ، وفي جو علاجي يسوده الأمان والطمأنينة . وهذا مايعرف بالتبصر والوعي الذاتي الانفعالي والعقلي .. وكل ذلك يساهم في إعادة التوازن النفسي للإنسان ويحفظ طاقاته النفسية دون تعطيل أو شلل

ومن المعروف أنه عندما يحكي الإنسان عما في قلبه ويعبر عن مشاعره وانزعاجاته لصديقه العزيز أو قريبه فإن في ذلك راحة وشفاء .. وبالطبع قد لاتكفي مثل هذه الأساليب التعبيرية البسيطة وهذا التنفيس الانفعالي مالم تترافق مع وعي وتبصر، ولكن فيها فوائد واضحة


وفي الدعوات الأخلاقية والدينية والإنسانية المتنوعة نجد الدعوة إلى تهذيب النفس وضبط شرورها ونوازعها السيئة وانفعالاتها المدمرة أوالسلبية مثل الكره والأنانية والحسد والغيرة واحتقار الآخر .. ونجد أيضاً التأكيد على الصبر وضبط النفس والرحمة والعطاء وأن لانكون من قساة القلوب .. وكل ذلك يرقى بالإنسان وحياته وانفعالاته إلى درجات سامية متألقة ومفيدة في الحياة .. وهي لاتتعارض مع ضرورات التعبير المناسب والصحيح عن الانفعالات والأحاسيس والمشاعر، بل تتكامل معها وصولاً إلى الصحة النفسية والانفعالية ، والتي يسعى الجميع نحوها